لما كان - صلى الله عليه وسلم - مؤيداً بالوحي، مأموراً بتبليغ الرسالة لم يكن كغيره من البشر. بل كانت حياته كلها عبادة لله، فذهابه عبادة، ورجوعه عبادة، وجلوسه عبادة، ومعاشرته لأزواجه عبادة بل جميع حياته عبادة؛ لأنه بهذه الأعمال يُعلِّم أصحابه, فهو يحتسب هذه الأعمال أنها عبادة وقد تكون في الحقيقة عادة إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- ينوي بها عبادة؛ لأنه مؤيد بالوحي فهو لا يغفل في بعض الأمور ولا كلها بخلاف غيره من البشر فهم يغفلون عن كثير من الأمور.
تأثير النية في المباحات:
إن الأمور المباحة ليست بقربات في نفسها، كالجلوس والسير والأكل والشرب والنوم.. ونحو ذلك، فهي ليست من العبادات التي شرعها الله للتقرب بها.
قال ابن الحاج في المدخل:"المباح بالنية إلى الندب، وإن استطعنا أن ننوي بالفعل نيته أداء الواجب كان أفضل من نية الندب، للحديث وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه ) البخاري، الفتح، رقم(6137)كتاب الرقاق، باب في التواضع.
وذكر ابن القيم -رحمه الله - أن خواص المقربين هم الذين (انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة ). راجع:"مدارج السالكين (1/107)".
ويقول ابن الشاط: "إذا قصد بالمباحات التقوي على الطاعات أو التوصل إليها كانت عبادة؛ كالأكل والنوم, واكتساب المال...) راجع:"غمز عيون البغاء" (1/34).
فالمسلم إذا قصد بنومه وأكله وشربه أن يتقوى بها على طاعة الله، كي يتمكن من قيام الليل والجهاد في سبيل الله، فهذا مثاب على هذه الأعمال بهذه النية.
وقد صحّ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لسعد بن أبي وقاص: ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك ) البخاري، الفتح، (56)، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن "الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى..."
قال الحافظ ابن حجر: "وقد استنبط منه النووي أن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه؛ لأن وضع اللقمة في فيّ الزوجة يقع غالباً في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله) راجع: "فتح الباري (1/137)".
وقال صاحب دليل الفالحين: "وفيه أن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله به، وفيه أنّ المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة، يثاب عليه، وإذا وضع اللقمة في فم امرأته إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجه الله, ويؤخذ من ذلك: أن الإنسان إذا فعل مباحاً من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه" راجع: "دليل الفالحين" (1/74).
وإنني قبل أن أذكر بعض الأمثلة على هذا المطلب فإننا سنذكر الآيات والأحاديث التي تدل على النية، وهذا جانب مهم لكي يُعرف أن النية هي أساس كل عمل.
أولاً: من القرآن:
عندما يتناول الباحث معجم ألفاظ القرآن ويبحث عن لفظ (النية) فإنه لا يعتبر للكلمة على وجود في كتاب الله، وقد يظن الباحث الذي لم يعش مع كتاب الله أن القرآن لم يتحدث عن المقاصد ولم يعن بالنيات، وهذا قصور نظر، فالقرآن فصّل القول في هذا المسألة تفصيلاً؛ لأنّها أصل الدين وأساس الاعتقاد إلا أن للقرآن في هذا المجال تعبيرات تخصه أطلقها على المعنى الذي نعنيه من النية والقصد.
وبالتأمل في آيات الكتاب نجد أن الآيات التي تتحدث عن القصد والنية هي تلك الآيات التي تتحدث عن الإرادة والإخلاص، وقد يعبر القرآن عن النية بلفظ ( الابتغاء) فمن النصوص القرآنية التي تتحدث عن النية قوله تعالى:{ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ}(152) سورة آل عمران.وقوله: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف. والمتأمل في هذين النصين يدرك أن المراد بالإرادة هنا النية، والنصوص في ذلك كثيرة.
والآيات القرآنية الآمرة بالإخلاص والحاثة عليه كثيرة أيضاً لقوله تعالى:{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (2) سورة الزمر. وقوله تعالى:{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}(5) سورة البينة. وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين على وجوب العبادات، فإنّ الإخلاص عمل القلب الذي يراد به وجه الله–تعالى -. راجع: "تفسير القرطبي عند تفسير الآيتين، و"بداية المجتهد" (1/.
وعبر القرآن عن النية بلفظ (الابتغاء) كما في قوله تعالى:{ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}(19-20) سورة الليل. وقوله تعالى:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (265) سورة البقرة.
ودلالة الآيتين على المراد واضحة، فالممدوح في الآية إنما يفعل من خيرات وإسداء للمعروف طلباً لرضوان ربه، لا يجازي جميلاً أسدى إليه، ولا معروفاً صنع له.
وفي الآية الثانية مديح للذين يبذلون أموالهم طالبين رضوان الله-تعالى-، فالإنفاق كما أمر الله يطفئ غضب الرب، كما يطفئ الماء النار، ويجلب رضوان الله-تعالى-.
ثانياً: الأحاديث:
إن الأحاديث التي تحدثت عن النية كثيرة وعمدة الأحاديث النبوية الحديث الذي يرويه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (البخاري، الفتح، رقم(1)، كتاب بدء الوحي،باب كيف كان بدء الوحي ومسلم،(3/1515)(1907)، كتاب الإمارة، باب قول النبي إنما الأعمال بالنية.
فهذا الحديث يدل على أن الأعمال لا تصح شرعاً ولا تعتبر إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وكلمة (إنما) وضعت للحصر، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت وإذا لم تصحبها لم تصح. وكذلك العادات عندما تصحبها النية تصبح عبادة يؤجر عليها، وعندما لم تصحبها لم تكن عبادة بل تكن عادة.
وهكذا في جميع العادات التي لا تخالف الشرع فإن الإنسان إذا نوى ذلك فإنه يضر عباده، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يفوته شيءٌ من الأعمال إلا وينوي بها ولا يغفل عنها؛ لأنه كغيره من البشر فهو مؤيد بالوحي، ومعصوم فهو لا يغفل.
فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ( لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية) (صحيح مسلم، (3/1488) (1864)، كتاب الإمارة،باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح) . فبعض الأعمال الشرعية تتوقف كالهجرة بعدما انتشر الإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وكذلك صلة الأرحام لمن لم يكن عنده أرحام، ولكن تبقى النية في الأعمال والجهاد، كما في الحديث؛ وإذا كان -عليه الصلاة والسلام - قال هذا بعد الفتح فإنه -عليه الصلاة والسلام - كان كذلك قبل الفتح ينوي في جميع أعمال، وهذا الحديث خير شاهد حيث أنه -عليه السلام- يحث أصحابه على النية, وهو لا يأمر أمته إلا ويكون من أسرع الناس إليه.
وإذا كان من أمته -صلى الله عليه وسلم - من ينوي في عمله أو جميع أعماله، كما روي عن معاذ ابن جبل أنه قال: ( إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي). فإنه -عليه السلام- من باب أولى أن يكون قد فعل ذلك في جميع أعماله وعباداته وعاداته.
وقد ذكر الغزالي عن أحد الذين كانوا يعنون بفعل الخير، أنه كان يطوف على العلماء يقول: (من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى، فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله، فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهمّ بعمله، فإن الهام بعمل الخير كعامله) (راجع:"إحياء علوم الدين"(4/364).
هذا في حق رجل عادي، فكيف بمن ينزل عليه الوحي أليس هو أولى بهذا العمل؟ بلى، هو أولى به، وقد كان كذلك -عليه الصلاة والسلام- ، فكيف لا وقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها- كيف كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان خلقه القرآن). فهو يأتمر بأمر القرآن وينتهي بنهيه، ولهذا نجد أنه -عليه الصلاة والسلام - كان في جميع أعماله يذكر الله -عز وجل - فينوي بها عبادة؛ لأنه يقول الأذكار فعند قيامه من النوم يقول: ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). (البخاري،الفتح،رقم(5953)، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا نام ، وعند الجماع يقول: ( اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما زرقتنا) (صحيح مسلم،(2/1058) (1434)، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع). وعند الخروج من المنزل يقول: ( اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أُزل أو أضل أو أُضل أو أجهل أو يجهل علي) ( سنن أبي داود،رقم(5094)، باب فيمن دخل بيته ما يقول، وصححه الحاكم في مستدركه(1/700). ويقول عند دخول الحمام: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (صحيح مسلم، (1/283)(375)،كتاب الحيض،باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء).
.