الحرية :
لا اعتقد أن هنالك مصطلحاً تمت معالجته، وبحثه في أوساط المثقفين والسياسيين ورجال الدين مثل مصطلح الحرية. تغنى بها الفن ،والشعر، وكتب فيها مئات من الكتب. حتى أصبحت كلمة الحرية على شفاه العامة كما هي على شفاه الخاصة مطلبا أساسيا للإنسان حتى تكتمل إنسانيته. في عصرنا الراهن تم ربط مصطلح الحرية بالديمقراطية ،واعتبرت بعض الأوساط أن الديمقراطية ترسخ دعائم الحرية، بيمنا رأت الأخرى أن الحرية هي مقدمة للديمقراطية .أشار لها الموروث الإسلامي إشارات مضيئة &amamp;quot; متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
الحرية في التاريخ الإنساني:
منذ قديم الأزل وعلى مر العصور كان موضوع الحرية موضع بحث واهتمام الفلاسفة، حيث دأب الكل على محاولة الوصول إلى مفهوم دقيق يكون من شأنه وضع حدود واضحة للتصرفات التي يجوزللانسان أو يسمح له بالتصرف في إطارها. يرى برتراند رسل أنه" يمكن تعريف الحرية بصفة عامة على أنها غياب العوائق التي تعترض طريق تحقيق الرغبات" . وقد قام بعض الفلاسفة الاسلامين بدراسة الحرية من منظور إرادة أو مقدرة الإنسان على الاختيار بين البدائل، ومن منظور الدين الإسلامي وحسب مرجعيته الأساسية والوحيدة ، الحرية هي هبة من الله ،أنعم فيها على البشر للاختيار بين البدائل المتاحة ، أي مابين الخير والشر حسب رؤية الإنسان وأيضاً حسب رؤيته للمصالح " وهديناه النجدين". وحتى نكون من المنصفين في دراسة تاريخنا الإسلامي ،يمكن أن نقول أن أكثر الباحثين السلامين الذين تطرقوا لموضوع الحرية هم المعتزلة ،يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي : إن الإنسان قد منح القدرة على التصرف والإتيان بالأفعال ، وإن هذه القدرة تشكل حقيقة تؤكد حرية فعل وتصرف الإنسان(أي حرية اختياره للبدائل)"إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" الانسان2-3 ثم تطورت هذه الفكرة على أيدي الفقهاء المتعاقبين حتى زمن الشيخ محمد عبده الذي يفرق بين نوعين من أفعال الإنسان.
التصرفات التي يؤتىبها في الحالات الطارئة( بالإكراه أو على مضض)أولا
الأفعال التي يمكن للإنسان اختيار إما الإتيان بها أو الامتناع عنها ، يقوم بها بعلمه ورغبته طواعية ودون أن يكون مجبرا بالضرورة، ثانياً . وبالطبع فإن حرية الإنسان في التصرف لاتعني أن في استطاعته فعل ما لا يشاء الله. حرية التصرف تتفق وإرادة الله." وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله عليماً حكيماً"الإنسان-30. مما يدل على أن الإنسان قد منح مقدرة محدودة يمارس فيها الاختيار،وهذه المقدرة تتسع حسب قدرتها العلمية، وكونه منح هذه المزية، فهو مخول باستخدامها،لكنه يخضع إلى الثواب والعقاب ."وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الكهف-29 ويعتبر القاضي عبدا لجبار مسألة الحساب (الثواب والعقاب) بمثابة ثمن عادل يستحقه الإنسان مقابل الحرية الممنوحة له. أما الشيخ رشيد رضا فإنه يرى أن العقل البشري دليل يستطيع به الإنسان التميز بين الخير والشر،الحلال والحرام،وفي رأيه أن الله قد منح العقل للإنسان لأنه يريد الخير ويريد أن يتجنبوا الشر والإثم .أما المفكر الحديث محمود العقاد فقد أكد على نسبية حرية الإنسان. ووفقا لرفاعة رافع الطهطاوي ،تنقسم الحرية بمعنى السماح أو التصريح(الإباحة) بالأفعال المشروعة دون موانع إلى أربع صور .الحرية الطبيعية ،التي خلقت مع الإنسان – حرية التصرف – الحرية الدينية – الحرية السياسية. وكون الناس يتمتعون بقدر معين من الحرية ، يمكن اعتبارهم بموجبها مسؤولين عن أفعالهم ،ولكن غياب الحرية لايكون هناك مكان أو إمكانية لتحمل المسؤولية. .
في العصر الحديث تطرق الدكتور محمد شحرور إلى موضوع الحرية وربط الحرية بموضوع القضاء والقدر ،ربطا محكما ، بقوله " والسؤال الذي يطرح نفسه : ماهو دور الإنسان في موضوع القضاء والقدر ،وأين الحرية والخيار للإنسان ، ؟ أي أين قضاء الإنسان؟ وما علاقة الإنسان بقوانين القدر القائمة في ظواهرها علىالاضداد وفي ذاتها على المتناقضات الأزواج (التأثير والتأثير المتبادل)" وحتى نقرب المفهوم لنأخذ على سبيل المثال قوانين القدر في المرض والصحة بظاهر الأمر يبدوا لنا أنها متناقضة (مرض،-وصحة) ،و كلما أزادت معرفة الإنسان بالطب استطاع أن يقضي فيه ،وبالتالي زادت حريته في موضوع الصحة وعلاج الأمراض." الموت هو قدر هو يجمع ظاهريا المتناقضات في الموت والحياة.... القتل هو قضاء.... لولا الموت لما كان هناك قتل... ووجود إمكانية الضرب باليد قدر والقيام بعملية الضرب قضاء (هو يحي ويميت) يونس 56، فكلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد شعوره بالجبرية ومن هنا نستطيع وضع تعريف للقضاء والقدر والحرية "حسب الدكتور شحرور" ...القدر هو الوجود الموضوعي للأشياء وظواهرها خارج وعي الإنسان".( الوجود الموضوعي يعني إن الأشياء موجودة إن وجد الإنسان أم لم يوجد ، إن وعيّ الإنسان وجودها أولم يعّي ،)... "القضاء هو ظاهرة تتمثل في السلوك الإنساني الواعي "إرادة إنسانية" قائم على الحركة بين الأضداد ، أي سلوك بين نفي وإثبات في ظواهر الوجود –القدر- والقضاء الإنساني المتحرك دائما يتولد من القدر من خلال المعرفة المتحركة دائما. وبما أن المعرفة الإنسانية لظواهر الوجود متحركة دائما نحو الأعلى وبالتالي القضاء متحرك نحو الأعلى".. بناء عل ماتقدم أعطى للحرية هذا التعريف :" الحرية هي إرادة إنسانية واعية دائمة الحركة بين النفي والإثبات في الأضداد. وحتى يمارس الإنسان حريته يجب أن يكون هنالك مجال للاختيار بين ضدين وأهم أنواع الحرية هي حرية الفكر والرأي". وأهم ما جاء في بحث الدكتور شحرور هو " حرية الفكر عند إنسان ما تقاس بمقدار ما يسمح للفكر المضاد له بالتعبير عن نفسه ولا تقاس بالمقدار الذي يسمح لنفسه بالتعبير عن ذاته، أي يجب قياس حرية الفكر بحرية الفكر المضاد"
ومن هنا نستنتج أن كل المفكرين اعتبروا أن حرية الرأي هي الحرية التي تقاس بها درجة تقدم الأمم ."المفقودة في بلادنا والمحظورة عليها من قبل السلطة السياسية والدينية "
ويحضرني تعبير رائع قرأته للشيخ جودت سعيد حول حرية التعبير قوله"إن للاختصاصي الحق في أن يبدي رأيه ، ولكن ليس من حقه أن يفرض رأيه ، وإذا كان ذا حجة فليقنع الناس بالحجة ولا يقبل منه أن يقول : أنا اختصاصي، ولذلك أريد أن أفرض رأيي عليكم، فالله لم يفرض علينا دينه بالقوة بل أعطانا حرية الرأي، نحن نستشير أهل الرأي " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون" الانبياء21/7، لكن لايشترط أن نقبل رأيهم لأنه "لا أكراه في الدين " البقرة 265 بل علينا أن نستمع القول فوسائل الاتصال صارت عالمية، نستطيع عبرها أن نستمع إلى وجهات نظر الآخرين، ثم نتبع أحسنها. ولا حرج أن نعطي للمخطئ حق دعوة الناس إلى أفكاره، إذا استطاع أن يقنعهم، لأننا إن لم نعطه الحق في التعبير عن رأيه، فلن يمنحنا هو بالتالي هذا الحق. وعلى الإنسان أن يعبر عن رأيه ،دون أن ينتظر الإذن له بذلك ، وان يتحمل تبعة الجهر بآرائه طالما انه مقتنع بها، فهذا رسول الله (ص) لم يستأذن قريشاً في الجهر بدعوته، وإنما مارس الدعوة وأعطى لنفسه الحق فيها على الرغم من رفض الآخرين وتحمل تبعتها."
ويمكنني القول أن القانون الآلهي "لا أكراه في الدين "البقرة265 هو قمة الهرم في مفهوم حرية الإنسان، ولا أعتقد أن هنالك مبدأ أعظم من هذا المبدأ في الحرية لو فهم العالم مضمونه ،ولو فهم على الأخص المسلمون مضمونه ليقدموه للعالم كأرقى مبدأ لا ثبات حرية الإنسان. والمشكلة هنا في أن الكثيرين لم يفهوا معنى الدين بشكل واضح ، ولم يفهموا القصد من هذه الآية. لأن الدين هو الشيء الذي نقبله لنعيش به. الإسلام دين ،يعيش به الموحدون، والكفر دين يعيش به الكافرون، والبوذية دين يعيش به البوذيون... وهكذا.... أي شيء تقبله لتعيش به هو دينك ... وحتى يكون المجتمع خالي من النفاق وهو من اخطر الأمراض ... لابد أن يعم بمبدأ لا أكراه في الدين الذي قبلته لنفسي كي أعيش به، لا أكره غيري على ديني كما أني لا اقبل أن يكرهني أحداً على دينه. وهذا المبدأ مطبق في الغرب بكل معنى الكلمة.... استطيع أقف في الشارع وأدعو الناس إلى ديني أو أفكاري بكل حرية طالما لا أتعدى على فكر الآخرين بالقوة. فأين نحن من هذه الحرية؟.سدنة المؤسسة الدينية الذين ملأ الدنيا صراخا من على المنابر والفضائيات بأن الإسلام يدعوا إلى حرية الفكر وانه لا أكراه في الدين ، وبالوقت نفسه يتهمون من يخالف رأيهم السلفي والنقلي في مصر بازدراء الأديان، يتهمون من يؤمن بحرية الفكر ومقارعة الحجة بالحجة ويؤمنون بضرورة تنقية التراث من الشوائب ،وبأن كتاب الله عز وجل هو المرجعية الوحيدة إلى جانب سنة الرسول (ص) العملية، بأنهم لايمتون إلى الإسلام بصلة. فأين هي حريتهم التي ينافقون بها ليل أو بدونه.نهار والعياذ بالله.
في الختام والبحث طويل ويجب تعميقه وتعليمه .و المقالة القادمة إن شاء الله ستكون في موضوع الحرية أيضاً كرؤية معاصرة ،وسيدور حول الحرية مع الإيمان
ارجو تقييم الموضوع وشكرا