قدم وفد تميم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة للهجرة(1)، بعد غزوة (تبوك) فدخلت قبيلة تميم في الإسلام، وكان من بينهم القعقاع بن عمرو التميمي، ولم تكن له مواقف مشهودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتأخر إسلامه، ولكنه برز كقائد بارع في سماء المعارك في عهود الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، واحتاج خالد بن الوليد إلى مدد في معارك الردة في العراق، فكتب إلى الصديق يستمده، فأمده بالقعقاع... وقال: "لا يهزم جيش فيه مثل هذا"(2).
وفي معارك فتح فارس، وبعد أن انهزم الفرس، وطاردهم القعقاع بأمر من سعد بن أبي وقاص'' وأوقع بهم خسائر فادحة، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد: أي فارس كان أفرس في القادسية؟ فكتب إليه سعد: "إني لم أر مثل القعقاع بن عمرو، حمل في يوم ثلاثين حملة، يقتل في كل حملة بطلاً"(3).
لا يمكن أن يكون هذا التميز والنجاح في إدارة المعارك نابعاً من فراغ، لابد أن يكون وراءه عقلية مفكرة مدبرة، مبتكرة، ووراءه قائد ذو قدرة فائقة على توليد الأفكار حين الاحتياج لها، وهذه السمة واضحة وضوح الشمس في حياة هذا القائد العظيم، وحق ما وصف به الصديق: "لا يهزم جيش فيه مثل هذا".
يوم أغواث: في اليوم الأول من أيام معارك القادسية، كان شديداً على المسلمين، وقتل من الفريقين الكثير، وواجه المسلمون عنصراً جديداً في القتال لم يعهدوه من قبل وهو الفيلة، فجيش الفرس "كله ثمانون ألفاً، وفي رواية كان رستم في مائة ألف وعشرين ألفاً، يتبعها ثمانون ألفاً، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلاً، منها الفيل الأبيض وهو أعظمها وأقدمها. وكانت الفيلة تألفه"(4)، بينما كان عدد المسلمين "بين سبعة آلاف وثمانية آلاف"(5).
وكان في اليوم الأول من القادسية بعض جيش العراق في الشام لمؤازرة جيش الشام في معركته مع الروم، فلما سمع أمير المؤمنين عمر ببدء معارك القادسية، وما حدث للمسلمين من خسارة في الأرواح، والضيق الشديد أرسل إلى أبي عبيدة بن الجراح: "اصرف جند العراق إلى العراق وأمرهم بالحث إلى سعد بن أبي وقاص"(6)، وكان قائد الجيش العراقي في الشام القعقاع بن عمرو، وهنا تتجلى عبقرية القعقاع، لقد فكر في أمر الجيش الإسلامي في العراق وما أصابهم من الضيق، وانكسار المعنويات بسبب مقتل الكثير منهم، ففكر في ابتكار يعيد للمسلمين معنوياتهم، فقد "وصل العراق في صبيحة اليوم الثاني من أيام القادسية، وهو يوم "أغواث"، وقد عهد إلى أصحابه وهم ألف رجل أن يكونوا جماعات، كل جماعة مؤلفة من عشرة، رجال فكلما بلغت جماعة منهم مدى البصر، سرح في آثارهم جماعة أخرى، ثم تقدم القعقاع مع الجماعة الأولى، وبمجرد وصوله طلب المبارزة مع أحد قادة الفرس وهو بهمن بن جاذويه، فقتله"(7)، وجعلت خيل القعقاع ترد جماعات جماعات إلى الليل، فترفع معنويات المقاتلين المسلمين، حتى نسي المسلمون مصيبة اليوم الأول، وهذا يدل على تدبير حكيم من القعقاع، ونجاح فكرته في رفع المعنويات.
الأفيال المقاتلة: لقد فتكت الفيلة بالكثير من المسلمين، وجعلت الخيول تفر خوفاً من هذا المخلوق الكبير التي لم تألفه من قبل، خاصة أن تلك الفيلة كانت مدربة على القتال بخراطيمها وأقدامها، وهو مالم يعهده العرب في معاركهم من قبل كما يتقنه الفرس..
فكر القعقاع بابتكار يعيد الميزان لأرض المعركة، ويدخل عنصراً جديداً في صفوف المسلمين لا يملكه الفرس، كما أن للفرس سلاحاً لا يملكه المسلمون، وهو الفيلة فوجد ضالته بالإبل والتي لا يملكها الفرس.
وأظن أن هذه الفكرة وردت عليه، بسبب رؤيته للخيول وهي تجفل من الفيلة، فقلب الفكرة واستفاد مما رأى، فاتفق مع بعض جنده على صناعة براقع مثقوبة مكان العينين، يلبسوها لرؤوس الإبل، كما يضعون عليها لباساً خاصاً يتدلى على طرفيها بحيث يكون شكلها غير مألوف، ومخيف.
"وأمرهم القعقاع أن يهاجموا بها خيل الفرس، فجفلت خيول الفرس تفر منها وركبتها خيول المسلمين، فلما رأى الناس ذلك فرحوا أشد الفرح، إذ لقي الفرس من هذه الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة في اليوم الأول من أيام القادسية"
هكذا هو القائد الناجح يولد الأفكار الجديدة عندما تحتدم الأمور.