بهذه الصيغة جاءت الوصية بالأم في حديث رواه النسائي عن معاوية بن جاهمة أن أباه جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله! أردتُ أن أغزُو وَقد جئتُ أستشيرك. فقال له: هل لك من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها، فإن الجنة عند رجلها". وفي الباب روايات بصيغ متعددة مثل "الجنة تحت أقدام الأمهات". </B>
من ذا الذي يرضَى أن تَنسُل له زوجه ذرية ضعيفة مهينةً مريضةً نفسيا، نشأت على اللف والدوران والكذب والحيلة والكيد والمراوغة؟ إذا كانت العشرة الزوجية معتلة فالأمومة مُعَوَّقة والذريَّةُ ترضَع الآلام. من كان من الآباء لا يحب تلك الصفات الرديئة في نسله فليعمل على تلافي أسباب تكونها في بيئته. يفعل ذلك رحمةً بالنسل إن كان دينُه وخوفه من الله لا يحمله على الاستقامة. يظلم الزوج ويضربها لا يحسُبُ حساب الآخرة ولا حساب الدنيا. </B>
مَن مِثلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ ومع ذلك، وتعليما وتأديبا لنا، يضرب لنا المثَل في اتقاء الله في الضعيف. روى ابن سعد أن خادما أغضبته صلى الله عليه وسلم فهددها قائلا: "لولا القِصاص يومَ القيامة لأوْجعتُكِ بهذا السواك!" تهديد فقط! وتهديد بسِواك! ما يوجع السواك وما يؤلم يأيها الفقيه الذي يفتي بضرب المرأة ضربا لا يكسر العظام؟ لا تكسر العظام وشرِّح اللحم ومزِّق الجلد وأسِل الدماء. فإِذا تذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انتُهِكت حرمات الله، ظهر لنا أن الخادم لا شك بالغت في السوء، وقدَّرنا حقَّ قَدْرِه لطف التأديب مقَارنا بِعظم الجُرم.</B>
من كانت رجولته لا تتجلَّى إلا في الوحشية العَضلية والعدوان على أم أولاده، وكانت مُروءته تنتهي حيث ينتهي مجلس المؤانسة والمجاملة مع الأصدقاء، فإذا دخل البيت دخل غولا، وكان حسابُ الآخرة والرحمةُ بالخلق مزايا مجهولة في قارَّته فذاك أفعوان بشريٌّ. إلا أن تكون هي أفعى تستفِز، وتختزل حيثيَّة وجودها في المماحكة واصطناع أسباب الصدام. إلا أن تكون دخائلها وأباطيلها مما يوحي الشيطان لأوليائه. </B>
إن فكرة الأمومة، وقداسة الأمومة، وحرمة الأم، ووظيفة الأم، لمما تتقدم به مُناضلات "تحرير المرأة" من الإسلام، يَعِبْن على الإسلام أن رفع الأم مكانة التعظيم، ويَعبْن الإسلام بعيوب من انتسب إلى الإسلام وأساء القِوامة، وعنُفَ وضرب وظلم وشرَّد. ثم يتهمنَ الإسلام بأن المرأة في دين الإسلام ما هي إلا وِعاءُ وَلَدٍ. </B>
يتقدمْنَ المناضلات المارقات بهذا ومثلِه معه، ومعهن الحجة القاطعة والنموذج الكامل: المرأة الغربية العالمية التي تحررت، أو كادت تتحرر من أعباء الأمومة. </B>
الاتجاه الإديولوجي النسوي العالمي، بقيادة يتزعمها في كل بلدٍ أكثرهن تفرنجا، هو تخلية المرأة من أثقال الحمل والإنجاب والتربية. عاملان اثنان، بل مِعولان اثنان، آخذان في الإجهازِ على أطلال الأسرة، وأطلال البِنية النفسية الفطرية. أحدهما ضرورة تفريغ المرأة من خدمة البيت وأعباء الأمومة لتُرضي طموحها في تسلق السلم الاجتماعي ومُطاولة الرجل لنزع السلطة الاقتصادية والسياسية من يده، ولتترقى في ميدان الأعمال المنتِجة الصانعة البائعة التاجرة. </B>
يُرِيحُها من أشغال البيت آلات ومكائِن. وتلك نعمة لو شكرتها! ويفتح لها أبواب التمني، بل يهدم فيها بقايا إنسانيتها، المعول الثاني، وهو التقدم المذهل لتكنولوجيا العصر المزدوجة: الإلكترون والهندسة الوراثية. تفتح في الذهن النسوي الثائر على الفطرة تكنولوجيا العصر آفاقا لتصنيع الإنسان وتحويله وتحويره على مَقاساتٍ وظيفية، تكون له الأنابيب رحِماً، والبطُونُ المستأجرة من نساء العالم المستضعف وعاء، ويكون له مربيا ما يفتحه الله على خلقه من بلاء. تعوِّضُ الأنابيب، ويعوض البلاء الفطرة والأمومة. </B>
وتحلُم الفيلسوفاتُ المناضلات بثورة مقبلة تنتصر فيها الأنوثة على الذكورة في يوم قريب، يومٍ يَكتشف فيه الـمَهَرة من اللاعبين بالجينات الوراثية طريقة لتصنيع جنس من البشر خُنْثَى جامعٍ بين لذات الذكورة ولذات الإناث. وبذلك تقضي المناضلات الفيلسوفات على تسلط الذكور، ويتحررن من حُمولة الأمومة وأثقالها. إديولوجية متطرفة هي فلسفة الخنثى المحايِد جنسيا. آخر صيحة في نادي الجنون النسوي. </B>
ما يعتبره العقل والنقل شرفاً، وما تعتز به وتعيش له وتفتديه بالنفسِ الفِطرُ السليمة، تعتبره المعتوهات عبودية وانهزاما. بشِّرِيهنّ بمزيد من الحرية لتكون الراقصة أكثر عُرْيا، والممثلة أشد فتونا، والمغنية أقل حياء، والعاهر عضوا محترما في المجتمع، والكاتبة رئيسة المعمل، والمناضلة رئيسة دولة جامعة للمجد من أطرافه في ميدان السلطة والمال وفي ميدان الـمُتعة والتهتك. </B>
تلك بشائرُ يَطْرَبْن لها، ومشاريع مستقبلية، وبرامج عمل. تكونين إن بشرت بذلك وآمنتِ به مثالا للمرأة المعاصرة التقدمية الحرة. أمَّا أن تفتحي معهن الحوار حول العفة والحياء والطُّهْر والعدل والمودة بين الأزواج والأمومة السعيدة فكأنك تُقْحِمِينهُنَّ في العدَم وتهددين وجودهن. </B>
أما إن ذكرت لهن الله، والدار الآخرة، والطهارة، والصلاة، والإسلام، والإيمان، وما خلق الله، وما بعث من رسل، وما سخر من كون، وما أعد بعد الموت من نعيم وجحيم، فقد بلغَتْ الجدلية منتهاها، وآنَ للنقيض أن يثب على النقيض بالأظافر وَالأنياب. </B>
نستمع إلى كلمة الحق، راجعين من الجدل الهوسي، في وصية الله ورسوله بالأم. قال تعالى: </B>)ووصينا الإنسان بوالديه. حملته أمه وَهْنا على وَهن. وفِصاله في عامين. أنْ اشْكُر لي ولِوالديك. إليَّ المصيرُ</B>(.</B>(سورة لقمان، الآية: </B>13</B>)</B> وقال جل من قائل: </B>)ووصينا الإنسان بوالديه حسنا. حملته أمه كَرها ووضعـته كَرْها. وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. حتى إذا بلغ أشُدَّه وبلغ أربعين سنة قال رب أوزِعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدَي وأن أعملَ صالحا ترضاه وأصلِح لي في ذريتي. إني تبت إليك وإني من المسلمين</B>(.</B>(سورة الأحقاف، الآية: </B>14</B>)</B></B>
المسلمون لله هم المنتصحون بنصيحة رسول الله، العاملون بوصية شكر من حملت على وَهن وكَره، وأرضعت، وغذّت، ونظفت، حتى بلغ أشُدَّه المسلم، وبلغت أشُدَّها المسلمة، دعا الله ودعت لمن ولداها وربياها، وسألته الصلاح في ذريتها ليتصل نسب الدين من جيل لجيل كما هو متصل نسب الطين. </B>
وصية القرآن ذكرت الوالدين وفريضة الإحسان إليهما إجمالا، ثم فصّلَت وذكَّرت وأطْنبت في الأم ترجيحا لحقها وتقديما. وكذلك رجح وفصَّل وقدر المعلم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان، قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله! مَنْ أحقّ الناس بحسْنِ صحابتي؟ قال: أمُّك. قال: ثم مَنْ؟ قال: أمُّك. قال: ثم مَن؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك". </B>
أمر صلى الله عليه وسلم ببِر الوالدين ولو مشركين. ذلك رعايةً لحبْل الفطرة من جانب المسلم والمسلمة وإن كان الأبوان كفرا بوظيفتهما الفطرية وجهلاَها وعقّاها: ألا وهي مَنْح الذرية أمانة الإيمان بالله مصحوبة بأداء أمانة الإنجاب والإرضاع والتغذية وتربية الجسوم. روى الشيخان وأبو داود عن أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قَدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدِمَتْ عليَّ أمِّي وهي راغبة (طامعة في عطاء ولم تجئ مسلمة مهاجرة)، أفأصِل أمي؟ قال: نعم، صِلِي أمَّكِ". </B>
يُبَرّ بالأم وتوصَلُ مشركة. ويُبَر بها بعد موتها كما كان يبر بها في حياتها. روى مسلم والترمذي وأبو داود عن بُريْدَة بنِ الحصيب رضي الله عنه قال: "بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت. فقال: وجبَ أجرُكِ، ورَدّها عليكِ الميراثُ. قالت: يا رسول الله! إنها كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: إنها لم تحُجَّ، أفأحُج عنها؟ قال: حُجي عنها". </B>
كما أوصى الله بالأمهات إحسانا، توعَّد من عقهن، وقَرن بين حرامَين كبيرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووَأد البنات، وَمنعاً وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال". رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة. حرامان متوازيان عقوق الأمهات قتل لآمالهن كما هو وأد البنات إقبار لأجسادهن. وفي الحديث تغطية كاملة لـحُرمة المرأة من لَدُنْ ولادتها إلى كبر سنها. </B>
ولَهِيَ عند الكِبَر أحوج إلى العطف والرحمة والبر. لذلك نص الله سبحانه على بر الوالدين في الكبر فقال: </B>)إما يبلُغَنَّ عندك الكِبَرَ أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما. وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذُّلِّ من الرحمة. وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا</B>(.</B>(سورة الإسراء، الآيتان: </B>23-24</B>)</B></B>
ونجد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والمثَل الرائع والمِثال في البِرّ بالوالدين. مات والده صلى الله عليه وسلم قبل ولادته، وماتت أمه وهو ابن ست سنوات. فحضنته بعد حليمة السعدية أم أيمن الحبشية. حاضِنة تولت من شؤون الأمومة أيْسَرَها، فاستحقت من البَرّ الكامل صلى الله عليه وسلم أتَمَّ الإحسان. أيّ إدْلالٍ كان لك على رسول الله يا أمة الله يا أم أيمن! روى مسلم عن أنسٍ رضي الله عنه قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيْمَن، فانطلقتُ معه. فناولته إناءً فيه شراب. قال: فلا أدري أصادفته صائما أم لم يُرِدْهُ. فجعلت تصخَبُ عليه (تصيح عليه) وتذَمَّرُ منه (تتَكره من رفضه لشرابها)". أم أيمن وما أدراكُنَّ ما أم أيمن؟ هاجرت من مكة إلى المدينة مسافة أكثر من </B>500</B> كيلومتر وحدها، في حَرِّ الجزيرة العربية، على قدميها. كما روى ذلك ابن هشام، رضي الله عنها. </B>
في حديث مُرسل عند أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه. ثم أقبلت أمه من الرضاعة (حليمة)، فوضع لها شِقّ ثوبه من الجانب الآخر، فجلست عليه. ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأجْلسه بين يديه. </B>
ونَشَر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية وبسطها لتشمل الأم وأقرباء الأم والأب وأصدقاء الأب. تَبَرهم المومنة بعد موت الوالدين. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله! إني أصبْت ذنبا عظيما، فهل لي من توبة؟ فقال هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرَّها". رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنها. لا إله إلا الله، بِرٌّ يمحو الذنوب العظام. فالحمد لله رب العالمين